القصة الأولى :
إنك تنظر أحياناً إلى الحيوان في حدائقه التي أنشأها الإنسان له لتتمتع وتتعرف
عليه عن كثب فتجد بعضه ينظر إليك بعينين فيهما تعبيرات كثيرة عن أحاسيس يشعر
بها ، فتتجاوب معه ، ويتقدم إليك بغريزته ، ويُصدر بعض الحركات ، فيها معان
تكاد تنطق مترجمة ما بنفسه ... هذا في الأحوال العادية ... فكيف إذا كانت
معجزات أرادها
الله سبحانه وتعالى تهز قلوب الناس وعقولهم وأحاسيسهم ؟
ألم يسمع صحابة رسول
الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصا في يده الشريفة ؟ ألم يسمعوا أنين جذع الشجرة ، ويرَوا ميله إليه
عليه الصلاة والسلام حين أنشأ المسلمون له منبراً يخطب
عليه ؟
وقد كان يستند إلى الجذع وهو يخطب فعاد إليه ، ومسح
عليه ، وقال له : ألا ترضى أن تكون من أشجار الجنة ؟ فسكت ..
إذا كان الجماد والطير صافات تسبح وتتكلم ، ولكن لا نفقه تسبيحها أفليس الأقرب إلى المعقول أن يتكلم الحيوان ؟...
اشتكى بعير إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ظلمَ صاحبه إياه ، وكلّم الهدهدُ سليمانَ
عليه السلام ، وسمع صوت النملة تحذّر جنسها من جيش سليمان العظيم أن يَحْطِمها ،
والله سبحانه وتعالى – أولاً وأخيراً- قادر على كل شيء ، والرسول
صلى الله عليه وسلم صادق فيما يخبرنا ، ويحدثنا .
في صباح أحد الأيام بعد صلاة الفجر قام رسول
الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه ، ولم يكن فيهم صاحباه العظيمان – الصديقُ أبو بكر والفاروق عمر – رضي
الله عنهما ، فلعلهما كانا في سريّة أو تجارة ... فقال :
بينما راع يرعى أغنامه ، ويحوطها برعايته إذْ بذئب يعدو على شاة ، فيمسكها
من رقبتها ، ويسوقها أمامه مسرعاً ، فالضعيف من الحيوان طعام القويّ منها –
سنة
الله في مسير هذه الحياة – وتسرع الشاة إلى حتفها معه دون وعي أو إدراك ، فقد
دفعها الخوف والاستسلام إلى متابعته ، وهي لا تدري ما تفعل . ويلحق الراعي
بهما – وكان جَلْداً قويّاً – يحمل هراوته يطارد ذلك المعتدي مصمماً على
استخلاصها منه ... ويصل إليهما ، يكاد يقصم ظهر الذئب . إلا أن الذئب الذي
لم يسعفه الحظ بالابتعاد بفريسته عن سلطان الراعي ، وخاف أن ينقلب صيداً له
ترك الشاة وانطلق مبتعداً مقهوراً ، ثم أقعى ونظر إلى الراعي فقال :
ها أنت قد استنقذتها مني ، وسلبتني إياها ، فمن لها يومَ السبُع؟ !! يومَ
السبُع ؟!! وما أدراك ما يومُ السبُع ِ؟!! إنه يوم في علم الغيب ، في
مستقبل الزمان حيث تقع الفتن ، ويترك الناس أنعامهم ومواشيهم ، يهتمون
بأنفسهم ليوم جلل ، ويهملونها ، فتعيث السباع فيها فساداً ، لا يمنعها منها
أحد . .. ويكثر الهرج والمرج ، ويستحر القتل في البشر ، وهذا من علائم
الساعة .
قال أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم متعجبين من هذه القصة ، ومِن حديث الذئب عن أحداث تقع في آخر الزمان ، ومن
فصاحته ، هذا العجب بعيد عن التكذيب ، وحاشاهم أن يُكذّبوا رسولهم !! فهو
الصادق المصدوق ، لكنهم فوجئوا بما لم يتوقعوا ، فكان هذا الاستفهام
والتعجّبُ وليدَ المفاجأة لأمر غير متوقّع :
إنك يا سيدنا وحبيبنا صادق فيما تخبرنا ، إلا أن الخبر ألجم أفكارنا ، وبهتَنا فكان منا العجب .
فيؤكد رسولً
الله صلى الله عليه وسلم حديثَ الذئب قائلاً :
أنا أومن بهذا ... هذا أمر عاديّ ،فالإنسانُ حين يسوق خبراً فقد تأكد منه ،
أما حين يكون نبياَ فإن دائرة التصديق تتسع لتشمل المصدر الذي استقى منه
الرسول الكريمُ هذه القصة ، إنه
الله أصدق القائلين سبحانه جلّ شأنُه .
ويا لجَدَّ الصديق والفاروق ، ويا لَعظمة مكانتهما عند
الله ورسوله ، إن الإنسان حين يحتاج إلى من يؤيدُه في دعواه يستشهد بمن حضر
الموقعة ، ويعضّد صدقَ خبره بتأييده ومساندته وهو حاضر معه . لكنّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بعِظَم يقين الرجلين العظيمين ، وشدّة تصديق الوزيرين الجليلين أبي
بكر وعمر له يُجملهما معه في الإيمان بما يقول ، ولِمَ لا فقد كشف
الله لهما الحُجُبَ ، فعمَر الإيمانُ قلبيهما وجوانحهما ، فهما يعيشان في ضياء
الحق ونور الإيمان . فكانا نعم الصاحبان ، ونعم الأخوان ، ونعم الصديقان
لحبيبهما رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، يريان ما يرى ، ويؤمنان بما يقول عن علم ويقين ، لا عن تقليد واتباع سلبيّ.
فأبو بكر خير الناس بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، صدّقه حين كذّبه الناسُ ، وواساه بنفسه وماله ، ويدخل الجنة من أي أبوابها شاء دون حساب ، وفضلُه لا يدانيه فضلٌ .
والفاروق وزيره الثاني ، ولو كان بعد الرسول
صلى الله عليه وسلم نبيٌّ لكان عمر . أعزّ اللهُ بإسلامه دينه ، ولا يسلك فجاً إلا سلك الشيطان فجّاً غيره .
كانا ملازمين لرسول
الله صلى الله عليه وسلم . وكثيراً ما كان
عليه الصلاة والسلام يقول :
ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر .
فطوبى لكما يا سيّديّ ثقةَ رسول
الله بكما ، وحبَّه لكما ، حشرنا
الله معكما تحت لواء سيد المرسلين وخاتم النبيين .
وأتـْبَعَ الرسولُ الكريمُ
صلى الله عليه وسلم قصةَ الراعي والذئب بقصة البقرة وصاحبها ، فقال :
وبينما رجل يسوق بقرة – والبقر للحَلْب والحرْث وخدمة الزرع – امتطى ظهرها
كما يفعل بالخيل والبغال والحمير ، فتباطأَتْ في سيرها ، فضربها ،
فالتفتَتْ إليه ، فكلّمَتْه ، فقالت: إني لم أُخلقْ للركوب ، إنما خلقني
الله للحرث ، ولا يجوز لك أن تستعملني فيما لم أُخلقْ له .
تعجّب الرجل من بيانها وقوّة حجتها ، ونزل عن ظهرها ...
وتعجب أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: سبحان
الله ، بقرةٌ تتكلم ؟!
قالوا هذا ولمّا تزل المفاجأة الأولى في نفوسهم ، لم يتخلّصوا منها ... فأكد القصة َ رسول ُ
الله صلى الله عليه وسلم حين أعلن أنه يؤمن بما يوحى إليه ، وأن الصدّيق والفاروقَ كليهما – الغائبَين جسماً الحاضرَين روحاً وقلباً وفكراً يؤمنان بذلك .
رضي
الله عنكما أيها الطودان الشامخان ، وهنيئاً لكما حبّ ُ رسول
الله صلى الله عليه وسلم لكما وحبُّكما إياه .
اللهمّ إننا نحب رسول
الله وأبا بكر وعمر ، فارزقنا صحبة رسول
الله وأبي بكر وعمر ، يا رب العالمين ....
البخاري مجلد – 2
جزء – 4
كتاب بدء الخلق ، باب فضائل الصديق وعمر