موضوع: التائب.. ؟؟ الثلاثاء سبتمبر 04, 2012 11:40 pm
التائب.. ؟؟
... توالت على باب البيت طرقات عدة،... ولكن، ما من مجيب! آلمته يداه من قرع الباب، فتوقف، ثم عاد يدق من جديد... لو كان للحجارة الصماء التي يقوم عليها المنزل آذان لصُمِّت، ولو كان للّوحات الصغيرة الحزينة المعلقة على الحائط في غرفة الجلوس أرجل، لهّبت إلى الباب تفتحه... وانطلقت من حنجرته كلمات متفجرة متحشرجة تنادي: - أبي!... ألا تفتح؟... ولكن أحداً لم يجب صرخته، بل أطلت نسوة ينظرن مَن عسى ان يكون صاحب هذه الصرخة المختنقة المبهمة التي شقت سكون القرية عند تلك الظهيرة القائظة... واتسعت أعينهن دهشة وهن يرين مصطفى... كان واضحاً عليه التعب والإجهاد، كما بدا من مظهره أنه قادم من سفر، فقد بدت إلى جانبه حقيبة كبيرة، وعلت رأسه قبعة مغبرّة، تحمي وجهه من أشعة الشمس، وقد تسللت من تحتها خصلات من شعر بدأ الشيب يتخلله، وطال بعض الشيء. تلاقت أعين نساء الحي على المسافر العائد، وطافت على ألسنتهن همسات وفي أعينهن غمزات:... ماذا أتى به وقد كادت القرية تنساه وتنسى اسمه؟!... ألم يكفه ما فعل بأبيه وزوجته؟... هل أتى ليذيقهما المزيد؟!... ولكن ابتسامة ساخرة كانت ترتسم بسرعة؟... على أنه لن يجد أباه، فقد سبقه الى العادل الذي لا يغفل والرحيم الذي لا يعجل،... أما زوجته، فما عاد له عندها شيء، بعد أن عافها وطلقها. بقيت هنالك ابنته. وجال سؤال واحد في أذهان الجميع: هل عاد ليأخذها معه؟!... وبقي الجواب معلّقاً. أما مصطفى، فحين رفع رأسه المطرق أسى ولوعة، هتف منادياً إحداهن، وقد عرفها: - أين أبي يا أم سعيد؟... وأجابت المرأة وهي تلملم أطراف ردائها، وتسوي منديلها المهلهل الشفاف على شعرها الأشيب: - هل أنت مصطفى؟!... هز رأسه بالايجاب، وعاد يكرر السؤال. نظرت إليه المرأة مستغربة ما بدا عليه من تغير في حركاته وطريقته في الحديث، ثم أجابت بعد أن عزت ذلك إلى بعد عهدها به أو إلى تعبه من السفر، فقالت وهي تتوجه نحوه: - لقد تأخرت يا ولدي،... لقد فارقنا منذ سنين. - إلى أين فارقكم يا ترى؟... لا أعلم أن لوالدي أقرباء أو أحداً يدعوه إليه. تصفحت المرأة وجهه جيداً بعد أن صارت قربه،... شعرت للحظة، بالحزن عليه لم تعلم لماذا، وهي التي طالما لعنته واستنكرت أفعاله القبيحة، شأنها شأن صاحباتها من نساء القرية المنشغلات بالحديث عن الناس من أخيار وأشرار. وتمتمت تقول في شبه همس: - إن من ذهب إليه والدك، لا يحتاج الذهاب إليه لدعوة، بل إن كل الناس إليه راحِلون!... ولم تزد... ... لقد فهم ما تعني، وتمتم بصوت مختنق بالدموع التي لم يقوَ على حبسها: - ولكن،... كنت أريد أن أراه،... أدار ظهره وهو يخاطب نفسه متألما: "كنت أريد أن اتوب على يديه،... كنت أريد أن يسامحني، فأين ذهب وتركني غارقاً في ذنوبي؟!... أين؟..." رفع رأسه إلى السماء، وقد نطقت دموعه بالكلمات: "رباه!... لقد أردت أن أعوضه عما قاساه بسببي، فلماذا أخذته هكذا؟!" ثم عاد إلى رشده سريعاً: - استغفر الله ربي وأتوب إليه، ليس لي أن أفكر هكذا... إنها مشيئة الله ولا راد لمشيئته. ثم التفت إلى المرأة المدهوشة التي وقفت ازاءه، وقد أذهلتها حركاته ونظراته ودموعه، وقال لها: - ولكن يا أم سعيد، هل كان والدي مريضاً، أم أن وفاته قد أتت فجأة؟ - لقد أصابه المرض قبل وفاته بسنة، وأحسب أنه قد توفي بسببه،... على كل حال، يمكنك أن تسأل السيدة نغم عن هذا الأمر، فقد كانت تزوره دائماً!... قالت كلماتها الأخيرة بأسلوب ملتو وهي تغمز بعينها في خبث، كانت أم سعيد تعلم أن مصطفى عندما طلق نغم كان قد كرهها وكره الحياة معها، فهو لا بد أن يغضب إذا علم أنها كانت تتردد على والده باستمرار، لأنه سينسب ذلك بلا ريب، إلى طمعها بالميراث، بعد أن كان الأب غاضباً على ولده الوحيد، ومقاطعاً إياه. ولكن ردة فعل مصطفى زادت أم سعيد ذهولاً، فقد أجابها بهدوء: - آجرها الله،... إنها امرأة صالحة. ولما كان مصطفى يعرف أم سعيد، ويعرف ألا عيبها التي لم يغيرها تقدمها في السن، فقد التفت إليها يحثها على الانصراف قائلاً: - شكراً لك يا أم سعيد،... أحسب أنني أطلت عليك الأسئلة فاعذريني، فأنا لا أريد أن أتعبك معي أكثر من هذا. ابتعدت متمهلة وهي تدعوه لأن يرتاح عندها قليلاً إذا أراد،... ولكنه رفض بلباقة، وابتعد يطوف حول المنزل، مسترجعاً ذكرياته فيه... إن المنزل كله يبدو متغيراً عما رآه عليه آخر مرة، وكأنما غيابه قد أضفى عليه جمالاً ورونقاً... ولم لا؟!... ألم يكن شراً يسكن في بيت لم يعرف سوى الخير؟... ألم يكن رذيلة تعايش الفضائل؟!... وأمه؟... لقد كانت امرأة صالحة، بكل ما للكلمة من معنى، ولكن رذائله حطمتها، وخطاياه نالت منها ما لم تنله خطوب الحياة كلها، فانطرحت في ليلة شتوية قارسة البرد تعاني مرضاً خطيراً في القلب أودى بحياتها. أما والده،... فقد كان أصلب منها عوداً وأكثر تحملاً، وحاول أن يرعى ولده حتى اللحظة الأخيرة، حاول أن يصده عن المعاصي وأن يردعه عن الرذائل، ولكنه لم يفلح. وكان آخر ما فعله في هذا السبيل أن زوّجه بفتاة كريمة الأخلاق، من عائلة طيبة كريمة، وإن لم تكن شديدة الالتزام بالدين، فقد كان ذلك أقصى ما استطاع الأب اليائس أن يفعله. كان أمل الأب أن يفلح الزواج في إصلاح ما لم يستطع هو إصلاحه،... وحمل مصطفى زوجته معه إلى حيث سافر، لكنه طلقها بعد ثلاث سنوات،... وعادت هي كسيرة الجناح إلى القرية، وإلى منزلهما الزوجي الذي كان قد كتبه باسمها، وهي تحمل منه طفلة رضيعة... ولكم تألم والده عندما فعل ذلك،... فسعى إليها طالباً أن تغفر له أن ربط حياتها بحياة ولده الفاسق!... وأرسل إليه خبر ذلك في تلك الرسالة الأخيرة التي بعث بها، مرفقاً إياها بما شاء له الله من توبيخ قاسٍ وتأنيب شنيع،... حالفاً أن لا يكتب إليه ثانية إلا بعد أن يهديه الله، إن كان له أن يهتدي... وعاد يبكي،... عسى أن يغْرق في الدموع همومه،... ثم رفع وجهه وقد ترك البكاء في عينيه حمره باهتة،... وراح يستغفر الله، وقد علم أن الاستغفار يفعل في نفسه ما لا يفعله البكاء، وبقي على هذه الحالة حينا، حتى هدأت أعصابه قليلاً،... ثم انطلق! انطلق إلى مقصده الثاني.. إلى حيث تسكن نغم لم يجرأ على قرع الباب فجلس أمامه يبكي، في تلك اللحظة فتحت نغم الباب فقد سمعت من الناس بقدومه فلم تستغرب ووجدت نفسها تخاطبه بهدوء، وقد غضّت بصرها عنه: - لماذا تبكي يا مصطفى ..؟؟ ورفع وجهه إليها، محاولاً أن يضبط أعصابه، ولما أفلح في النهاية، تمتم قائلاً بصوت خفيض: - إنني أبكي على نفسي يا نغم،... أبكي على ذنوبي التي أثقلت كاهلي وطأطأت رأسي،... أجل لقد تركني الخير مند زمن طويل. قال كلماته الأخيرة بعزم وإصرار، ثم تابع وهو ينظر إليها متوسلاً: - لقد عدت يا نغم،... عدت لأنني أدركت حق الإدراك، أن لا خير في الحياة التي أحياها، وأن الخير كل الخير في السير على النهج القويم، نهج الحق والإيمان،... ولشد ما آلمني ولوّع فؤادي أنني لم أجد والدي لأعتذر منه عما ارتكبته في حقه وحق والدتي من عقوق لا يغتفر، ولأتوب على يديه فيبارك توبتي،... على أني واثق من أنه كان سيسامحني لو وجدته،... وهل يعقل أن يتوب الله على الخاطىء ثم لا يتوب عليه أبوه الحبيب، الذي لم يعرف في حياته سوى الصفح؟!... قال ذلك بثقة، ثم حوّل بصره إلى نغم وهو يقول بنبرة دامعة: ... ولشد ما خفت أن لا أجدك أنت أيضاً يا نغم،... فأنا أعلم كما لم أعلم من قبل، أن الخير كل الخير هو أيضاً في هذا البيت الدافىء الصغير الذي أتوق أشد التوق لأن أعود إليه!... وهبط بنظره إلى ليلى، التي وقفت قرب أمها تنظر إليه بحنو،... لقد فهمت بصعوبة كل شيء،... وهرع إليها فضمها إلى صدره بكل حرارة الأبوة المحرومة، المتحرقة شوقاً، ودفن وجهه في شعرها الناعم المسدل على كتفيها الصغيرتين،... وضمته الطفلة وهي تبكي،... وحسب أنه سمع بين دموعها وشهقاتها كلمة: بابا. وطار فؤاده شعاعاً،... شعر بأن المغفرة هبطت عليه من عليين،... والتفت إلى نغم وهو لا يزال معتنقاً ابنته، بينما كانت هي لا تبرح واقفة في مكانها، وقد شردت عيناها الدامعتان في الأفق البعيد، وهتف منفعلاً: - أي نغم،... لا تحرميني بالله عليك من هذه النعمة،... ولا تقسي علي أكثر،... انسي ما فات يا خير زوجة وأم رأيتها في حياتي،... سامحيني وتعالي نكمل معاً درب الإيمان، ناشدتك الله!... التفتت إليه مترددة، ولكن نظراتها سرعان ما أخذت تلين وتصفو،... وراحت تفكر في كلماته؟... ولكن اتستطيع أن تنسى؟... أيمكنها أن تطوي كل صفحات الماضي السوداء، بهذه السرعة؟... وتذكرت كلمات عمها المرحوم أبي مصطفى، الذي كان يقول دائماً: "واصفح الصفح جميل"... وهبطت ببصرها إلى مصطفى، وقد ضمّ الطفلة إلى صدره فاستكانت لأحضانه،... وعلقت عيناها الحائرتان بعينيه المتوسلتين،... ورأته أمام ناظريها إنساناً جديداً،... إنساناً ملء قلبه الخير والحب والوفاء،... إنه يريد أن يبدأ معها من جديد، وينتظر منها القبول،... لقد أتى ليعوضها سنّى البؤس التي عاشتها معه،... رأته رجلاً يخط له الإيمان سبيل الحياة،... رجلاً بكل معنى الكلمة،... إنه يستحق الصفح والغفران... فركعت إلى جانبه، ووضعت يدها على رأس ابنتها، أغمضت الطفلة عينيها وقد ندّاهما الدمع، ثم خفضت نغم بصرها وهي تقول متنهدة: - أهلاً بك يا مصطفى في بيتك،... أحسب أنك ستعرف الآن كيف تحافظ عليه. واستخفته الفرحة، حتى كاد يضع يده على يدها ولكنه التفت، فتبسم وهو يقول متأسفأ: - لن يطول الأمر أيتها العزيزة،... إن هي إلا ساعات، بل دقائق، ويضمنا البيت الصغير الآمن،... وتعود لنا الأيام نطويها معاً في طاعة الله، بحلوها ومرها. لقد مضت أيام العسر يا نغم،... وها قد جاء اليسر بأحلى صوره،... ثم وقف وهو يخاطبها: (فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً)، "ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت أرحم الراحمين".